الغنائية اللونية في أعمال الفنان العراقي حسين البلداوي

الفنان التشكيلي والناقد د. كاظم شمهود المقيم في اسبانيا…. تناول تجربتي التشكيلية بقراءة رائعة اسعدتني كثيراً … له باقة ورد عطرة.
الغنائية اللونية في اعمال الفنان العراقي حسين البلداوي
د –كاظم شمهود
منذ الثورة الفرنسية و الرومانسية و الانطباعية بدأ الفن يتحرك نحو التغيير و بلغ غزارة مذهله في الانتاج الفني في عصرنا الحاضر ويذكر البعض بانه ليس هناك حقبة اكثر ثورة او عصر كان الفن فيه اكثر تجريبا من القرن العشرين .. حيث تداخل الرسم و النحت و التصوير الفوتغرافي و استغلت الاقترانات في ملاعب الابداع . و امتد الرسم اكثر من حدود القماش و اصبح العمل ذهنيا . كما ان بعض الفنانين اهتم فقط في اللون و حوله الى بقع متباينة على سطح اللوحة .
و هناك من الناس من ولدوا لاجل الفن و حملوا في اعماق مشاعرهم شروط الابداع منذ الولادة . اما الذين يدخلون عالم الفن بدون شروط الولادة الموهوبة فيمكن لهم ان يرسموا و يدرسوا و يعرضوا ولكن ليس لديهم الموهبة . فالموهبة تثير المشاهد و تمليه بهجة و غنائية , كالموسيقى اذا لم تهيج المستمع و تؤثر في مشاعره , ليس بموسيقى و انما ضوضاء كضوضاء السيارة .
البقع اللونية و الغنائية التي نشاهدها في اعمال الاستاذ حسين تملئ المتلقي بهجه و مسرة . يقول المفكر الانكليزي راسكين ( اللون يقصد من اجل الراحة الدائمة للقلب الانساني و بهجته ) و يقول سيزان ( كلما كان العمل الفني ثريا بالالوان ازداد تكاملا ) . و هو ما نجده و نراه من ثراء و تناغم لوني في لوحات حسين . ان اكثر الاشياء صعوبة هو ان تعطي تعبيرا مباشرا عن الاشياء المرئية و تحولها الى اشكال تجريدية لكي تحتفظ بروحها السامية المطلقة . فالعقل يحلق على مساحة مبسطة من النسيج ولا ينحاز الى التمثيل و لا يعتمد على رؤية بصرية و انما رؤى ذهنية .
الاستاذ حسين ينتمي الى مدرسة عرفت بالروحانيات و هي المدرسة التجريدية فمنذ مخترعها كاندنسكي في بداية القرن العشرين بقت هذه المدرسة تؤثر على حركة عالم الفن و التجارة و في هذا الخصوص الف كاندنسكي كتابا سماه – الروحانيات – عام 1910 . و قد عمد حسين الى تشكيل عناصره الفنية على شكل بناء معماري هندسي من مربعات و مستطيلات و دوائر و نقاط و رمزية و احيانا يدخل فيها اشكال ادمية معبرة . وتشكل بمجموعها الجمال المطلق .
و قد افرزت الفنون الحديثة المعاصرة اليوم نوع جديد من التناغم في الالوان و الخطوط حيث يمكن لها ان تحدث ايحاءا بالظلال و الضوء نتيجة تقارب الالوان غير المخلوطة و نتيجة للدراسات العلمية والمعالجات الحديثة ونتيجة لتحررها من القوانين الكلاسيكية القديمة . .. وكان سابقا للظل و الضوء دورا فاعلا في خلق التناغم و الانسجام بين الالوان كما هو حاصل عند الفنان رمبرانت 1606 و روبنز 1577 … فجاء كوكان 1848 و تمرد و قلب الامور على رأسها . و في يوم من الايام كان مع احد اصحابه يرسمان في الحقل . فقال كوكان لصاحبه كيف ترى لون الشجرة قال له اصفر فقال كوكان ضع ابهى اصفر لديك . و كيف ترى لون الارض قال حمراء فقال كوكان ضع اجمل احمر لديك .. و من هنا انفتح الباب الى ظهور المدارس الفنية الحديثة المعروفة اليوم ..
الاستاذ حسين يعالج تشكيلاته اللونية و مواضيعه بحس مرهف و غنائية و كأنه يرسم من خلال انغام موسيقية. فتزيد المتلقي هياما و طربا .
و قد يكون ادراك و فهم فلسفة اللون قد عرفها الفنان المسلم قبل غيره . فجاءت زاهية جميلة تسطع على فلاسفة وفناني المذاهب الفنية الحديثة . وتجلى ذلك خاصة في اعمال ماتيس و زيارته للمغرب و الجزائر عام 1906 مقتفيا آثار زملائه السابقين امثال ديلاكروا ومونيه و غيرهم .
وجاء اللون في فن حسين ليؤكد القيمة الجمالية في الفكر و التكوينات الشكلية وبالتالي فان حقيقة انعكاس هذه الالوان على الانسان يولد المحبة والتعايش مع الآخرين برقة وشفافية عالية . كما انها تجلب الراحة الدائمة والبهجة الحقة للنفس البشرية .. كما تقوم هذه الالوان بدور النور والضل مثلا الالوان الحارة تستخدم للنور و الباردة للضل او الابداع في الاثنين بشكل ساحر وجميل ..
ان معرفة الفنان لعمله الفني تطور اليوم بشكل ملحوظ . ولكن هذا التطور كان في اتجاه معرفة المادة اكثر من تطوره في معرفة الانسان .. فان اساس التكامل هو اساس المعرفة . و قد يكون الانسان اليوم يعيش ثقافة مادية ( الانا ) .. يذكر العالم الكسي كارل -1873 – ان الحياة تخضع لقانون مثلث . قانون الحفاظ على الحياة و قانون مواصلة انتاج الانسان وراثيا و قانون رقي العقل اي تطور الفكر و تكامله . تكامل العقل هو النور ( اي العلم ) الذي يمشي فيه الانسان وسط الظلماء ..
يذكر لنا التاريخ ان احد فلاسفة الاغريق كان يسير في الشارع و سط النهار حاملا بيده فانوس مضيئ . وهو مشغول يبحث عن شئ و كأنه في ظلمة . فسألوه عما يبحث فقال: ابحث عن رجل . و هنا يقصد الرجل الطيب الجاد في عمله . و قيل طوبى للمخلصين اولئك مصابيح تجلى لديهم كل ظلماء .
ففي الضياء ترى الالوان وجمالها و روعتها و بهجة الحياة كلها . و اصبح اليوم تدرس الالوان علميا لما لها من تأثيرات نفسية على حياة الانسان , كما اصبحت دليلا لقراءة ذوق و ميول و ثقافة الآخر ….
اعمال الفنان حسين التجريدية هي في حقيقتها و عمقها ارواح ملونة متحركة على سطح اللوحة منها من يتآلف مع ذوق المتلقي و يجذبه و منها ما يختلف و يصرفه و هذه هي طبيعة البشر و اختلاف الثقافات و الاذواق. . و قيل في الامثال ( لولا اختلاف الاذواق لبارت السلع ) .