التناغم… مقال بقلم الاستاذ سعد عبد الغفار

بحث موسيقي
التناغم بين الموسيقى التركية والروح العربية
طالما شكلت الموسيقى مدخلاً مهماً لمعرفة أسرار الشعوب وثقافاتها ، وأكد ذلك وصف الحكيم الصيني كونفوشيوس في القرن الخامس قبل الميلاد ، عندما قال : ( إذا أردت أن تتعرف في بلد ما على مبلغ حظه من المدنية وعلى نوع رقيه ، فأنظر إلى موسيقاه )
والمتفحص في تاريخ الموسيقى سيجد أنها عريقة الجذور ، وأن البلاد العربية لها دور مهم في تكوين الموسيقى العالمية ، ونجد في هذا السياق روحية ترابط وتناغم فريدة تصل بين موسيقانا ونظيرتها التركية
إن الموسيقى مدخل لمعرفة أسرار الشعوب وباب تستقرئ معه ملامح المجتمعات ، وتتسم دول المشرق كإيران وتركيا وأوزباكستان والهند ودول المنطقة العربية بتمايزها وتمازجها مع بعضها البعض ، وايضا مع ما ارسته الحضارات القديمة التي نشأت فيها وجعلتها متقاربة من بعضها البعض في قيمها الاجتماعية والثقافية والروحية والفكرية
ان التمازج الحضاري الذي شهدته المنطقة خلق نوعاً من الموسيقى الخاصة التي مهما ابتعدت في ايقاعاتها تبقى قريبة من بعضها البعض نتيجة لتأثر مجتمعات المنطقة بعضها ببعض
كان للموسيقى التركية نصيب كبير في هذا التأثر ، فهي تحتوي على عناصر مختلفة ومتنوعة من الموسيقى الشعبية لآسيا الوسطى وموسيقى الإمبراطورية العثمانية والموسيقى الفارسية وموسيقى البلقان والموسيقى البيزنطية
والباحث في جذور الموسيقى التركية سيجد أنها قديمة ، وبلا شك أن قدمها هذا ساعدها في التطور والتوسع واستيعاب عديد الأنماط الموسيقية الحديثة بما تتضمنه من آلات حديثة ، وفضلاً عن ذلك ساعد وجود أنماط عرقية مختلفة في تركيا مثل الكردية والأرمينية واليونانية والبولندية والأذرية في توسيع قاعدة تراث الموسيقى التركية ، ولذلك نجد أن العديد من المدن والبلدات التركية ما زالت عامرة بالمشاهد النابضة بالحياة الموسيقية المحلية ، ويتجلى هذا المشهد في مدينة اسطنبول الذي تنتشر فيها الكثير من ( فرق الشوارع ) التي تقدم كافة أنواع الموسيقى المحلية والعالمية بالمجان ، وبالتأكيد أن ذلك ساهم في تعميق علاقة الشعب التركي بالموسيقى
تميزت تركيا عن غيرها في دول المنطقة بأنها اهتمت كثيراً بالتراث الموسيقي ، واستطاعت عبر عقود من الزمن تخريج العديد من المتخصصين في علوم الموسيقى التركية ، ومن أبرزهم : فكرت كاراكيا الذي درس الفنون الجميلة والآداب بجامعة اسطنبول وتعلم صناعة آلة ( الكيمنس ) التركية التي صنع منها العشرات وكتب العديد من المقالات والبحوث في الموسيقى التركية ، كما أصدر كتابين في هذا الصدد أحدهما ( الموسيقى التركية عبر التاريخ )
وكاراكيا تناول في محاضرات عديدة المقام التركي وتقاطعه مع المقام العربي ، وفي ذلك قال : ( فكرة التقاطع بين المقامين ناتج عن اشتراكهما في كثير من الصفات وتقارب محتواهما وكذلك أسماء المقامات نفسها ، ولابد من الانتباه إلى أن الموسيقى العربية والموسيقى التركية هما الأقرب لبعضهما ضمن موسيقى دول الشرق في العالم ، فهناك ألحان عظيمة من الإرث الموسيقي في العهد العثماني عبارة عن توليفات بين الموسيقى العربية والتركية ) واضاف : ( معروف عن السلاطين العثمانيين حبهم للموسيقى وللاستماع إليها حيث تعزف في بلاطهم لاسيما الموسيقى العربية رغم اتساع الرقعة الجغرافية التي كانت تحكمها الإمبراطورية العثمانية والتي انضوت تحت لوائها العديد من حضارات وثقافات البلدان التي تلاقحت مع بعضها بطول زمن الحكم العثماني ، وهذا أنتج خصوصية ثقافية لها نكهة الدولة العثمانية ، فالثقافة ومنها التراث الموسيقي الإسلامي توسع جغرافياً وارتفع درجات كبيرة في القيمة الفنية من حيث غنى المحتوى وتنوع العناصر على يد العثمانيين ، وعموماً فموسيقى الشرق هي موسيقى المقام
ورغم التقارب بين الموسيقى التركية والعربية إلا أن أسلوب الترتيب والتعبير مختلف إلى حد ما ، ودرجات السلم في الموسيقى التركية أعلى في بعض المواضع من الموسيقى العربية كما هو واضحا مثلا في السيكاه والصبا والحجاز والبياتي والعجم
في تركيا تعد الموسيقى جزءاً مهماً في احتفالات الأعياد والمهرجانات ، ومن أبرزها تلك التي تقام في عيد ( النيروز ) في فصل الربيع والاحتفالات الدينية التي تقام في شهر رمضان المبارك والأعياد ، وكذلك الاحتفالات التقليدية التي تقام في حفلات الزفاف والمناسبات الوطنية وحفلات الميلاد والطهور وغيرها وهي تضم العديد من الرقصات والايقاعات التقليدية
وتعد مدن اسطنبول وأنقرة وأزمير التركية موطن العديد من المهرجانات الموسيقية المختلفة والتي تتراوح بين التقليد والاصالة
اصبح الان من الواضح جدا لدى المستمع والمتذوق الموسيقي ( على ضوء ما تقدم ) ان هناك تناغم بين الموسيقى التركية والروح العربية .
سعد عبد الغفار
المصادر :
مجلة الموسيقى التركية ( جامعة اسطنبول )
موسيقى البلقان ( مركز الدراسات التقليدية / موسكو
الكاتب غسان خروب