فاعتبروا .. مقال بقلم د. محمد الغلبان

مقال بعنوان :
فاعتبروا يا أولىّ الأبصار
*******************
فقد سَاقَتنى مَحاسن الأقدار أن ألتقى وشيخ طَاعنٌ فى السن ليصحبنىى ويشرفنى بسيارتى المتواضعة فى إحدى مرات إيابى لبلدتى – ليثرى فكرى على مدار ٤٥ دقيقة من الروعة والمتعة والتشويق والإثارة – حتى ودَدتُ أن تَبُعد المسافات لأزداد وأنهلُ وأَستَقى من فيض هذا المِثال المحتزى .

فهو رجل ……..
فى العقد الثامن من عمره ، مُنَمق أوى ( خَلقاً وخُلقاً ) موزون أوى ، صراحة كل حاجة عنده أوى – ربنا يبارك فى عمره ويرزقه سعادة الدارين .

الحقيقة كلمنى فى حاجات كتير برضه أوى فى وقت وجيز أوى وكانما يَضع النقاط على الحروف ، سمعته أنا كمان أووى بكل جوارحى حتى وَدَدُت ألا أرد بغير إيماءة أو طَرفة عين من شدة حرصى على تمام الإصغاء .

ومع هذا الزخم والثراء فى حديثه – إلا أنه لم يَضِن علىّ بالنصيحة – ولكن من حِنكته وفَراسِته ترآىَّ له أن يُصيغها ويُودعها إياى بواقع عملى مُجَسّد ، فهى نصيحة على حد زعمه (قد شكلت فكره ).

فإتكأ متضجعا ….. على الكُرسى الذى يَجاورنى وإسترسل الحديث عن نفسه وطفولته البائسة وكيف أنه طفل وحيد لأرملة ثلاثينية العمر قد وهبت نفسها له منذ أن مات أبوه وهو فى الثالثة من عمره – ولا حول ولا قوة إلا بالله .

فلم تَجد الجَسورة أمامها بُد من أن تجوب الحقول والمزارع والجناين بحثاً عن لُقمة عيش لها ولوَليدها .

حدثنى عن الحرمان باكتمال معانيه – وأى حرمان – أعاذنا الله وإياكم ، حرمان تَكون من شهور واسابيع وأيام وليالٍ مرت فى بيتهم دونما أن يوقد به مَوقد فقد تربى على الكَفَاف ….. ولكن بالعَفَاف .
ليسهب فى حديثه ويحكينى عن صباه وهو دونما الخامسة عشرة من عمره وقد حولته الظروف إلى رجل مسئول عن نفسه وأمه فى مَهد طفولته وصباه .

فقد حَكَانِى موقفاً وهو فى مفرمة العمل اليومية ذات يوم فى حر يونيه الملتهب وإذ ببرتقالة غَنَاااااء يانعة تداعبه فى غصنها فلم يُعِرها انتباه كعهده وعادته
ولكن ……..
فى هذه المرة قد بلغ منه الضَنَى والعََوز مبلغه ، إذ يُراوده شيطانه لاَن يقطتفها ليروى به ظمأ نفسه …… نعم نفسه
نفسه التى هانت عليه حينما كان يَستجدى لها المرض ويطلبه من الله حتى يزوره أحدهم بكيس برتقال .
ياااااااااااااااالله

فبعد أن سَولت له نفسه أن يقطتفها ليروى بها ظمأ سنينه فى غفلة من الزمن وهو غير عابئ بالعهد والميثاق ، فقد إستحلها – نعم إستحلها ليسقط عليها منبطحاً فى قَنَاية المية ( القناة ) بالقرب من الشجرة مسرح الجريمة

ليعود إلى أمه وقد أغرورق طيناً عن أخره ، ليدور بينهم هذا الحوار :
الام : مالك يامايل ما انت عمال ترمح من الصبح فى الجنيه ايه اللى صااااابك ؟!!!
هو : ربنا بيعاقبنى يا اماااااااا .
الام : فيه أيه ياواد ؟!
هو : عينى زاغت على برتقالة وايدى اللى تستاهل قطعها دى طالت عليها .
الام مسترسلة : اخص عليك ، اخص على ادبك ، اخص على تربيتك الناقصة ، أنا ربيتك على كده ، إتصرف إزاى أنا دلوقتى ياربى ، وياترى مفتكرتش العهد والوعد اللى إديناه للراجل اللى مأمنا على حاله وماله ، الله يسامحك يا ابن حِشايا .

ليمر عليهم ما تبقى من يوم عملهم فى حالة من الصمت والسكون المُدَوى ، حتى أذن الله لهم بالرحيل مع أوان المغرب ليصحبا منديلهم المحلاوى وما تبقى به من فتات العيش المتبقى من مادوبة الغداء ، ليصليا (المغرب والعشاء) ويلتحفا بما تبقى لديهم من هِمة ليستوعبا عناء يومٍ آت .

وبينما يخيم الصمت على جَنَبِات المكان إستكمالا لسيناريو خيبة أمل الام فى إبنها ، وإذا بباب الدار يَطرُق ليخرج الصبى المكلوم ليجده عم الحاج / …………. صاحب الجنينة حاملا على كتفه ( أُفة ) برتقال ، بدلا من السلة فى وقتنا الحاضر
نعم …. !!! هو وبنفسه (بصفته وشخصه) دونما أن يُحَمِل أحد مُستَخدِميه وفلاحيه الأُفة فى لمسة تعبير صامتة منه عن ما للصبى وأمه فى رقبته من امانةٓ وفضل .

فقد كان الحاج يُرقب الموقف منذ أن بدأ حتى بعد أن خَيّم الصمت أرجاء الجنينة بعد فَعَلة الصبى النكراء وعتاب وتعنيف أمه له ، وغادر الرجل الجنينه كأن لم ياتى ولم يري شئ .

الله الله الله …… على ام الصبى فهى من تستحق الإشادة الحقيقية ، وعلى الصبى المراقب لربه ، وعلى عم الحاج صاحب المزرعة والذى ضرب اروع المثل فى تقدير الآخر .
ولكن يا إبنى تأمل نفس الشخص ده اللى حكتلك نبذة عن فقره وذله وصبره هو ده اللى ادامك دلوقتى عندى ثلاثة اهرامات

الهرم الاكبر / لواء فى القوات المسلحة .
الهرم الأوسط / رئيس نيابة .
الهرم الأصغر / طبيبة .

بالرضا والتسليم والإذعان يا إبنى وظل يرددها على مسامعى

وهنا إنتصف الطريق وحَانت لحظة الفراق ، بس على مين هسيب حاجة حلوة أوى كده تعدى من تحت أيدى أهو ده اللى مش ممكن أبدا .
بعد رفض قاطع من جانبه ردا على إلحاحى بدخول البلد لتوصيله أصر أنه ياخد توكتوك عشان الزراعية مكسرة ، بس الحقيقة اخدت تليفوناااااته كلها أصل اللى زى ده ميضحاش بيه .

تذكرت الموقف ده النهارده ، وانا بتصل أعيد عليه فأثرت أن أرويه لكم وعلها فى ميزان حسنات مُلقن الدرس .

طاب صباحكم وكل اوقاتكم

د. الغلبان
ت : ٠١٠١٤٢٧١٩٧٤
٠١١١٥٠٤٩٥٥٧

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.