ما لم يكن بالحسبان قصة بقلم : علي الشافعي

ما لم يكن بالحسبان
قصة بقلمي : علي الشافعي
تعرفون ـــ يا دام سعدكم ــ الأصل أن يكون لكل إنسان في هذا العالم المتحضر, راعي الديمقراطيات السائدة ,والمتربعة على عرش المدنية الحديثة وطنان : وطن أكبر ووطن أصغر , تضمنهما له هيئة الأمم . قد يستغرب البعض هذه التسمية لأنه يراها من باب تحصيل الحاصل , وقديما قال الشاعر :
لا يعف الشوق إلا من يكابده
لكن كثيرا من الناس فقد أحدهما أو كليهما, بفعل الديمقراطيات الحديثة ايضا , كما حدث مع محدثكم وكل شعب بني فلسطين , ولكنّي أودّ بادئ ذي بدء أن أوضح لبعض السادة المقصود من الوطن الكبير والصغير : فالكبير أقصد به الدولة , والوطن الصغير أقصد به المنزل الذي يجمع الأسرة ويمنحها الدفء والأمان والمودة والحنان تحت سقف واحد , فهو أيضا وطن .
وعيت على الدنيا وقد حرمت من كليهما فنحن من مهجري فلسطين المحتلة عام1948 بفعل البوم والغربان إلى ما تبقى منها (الضفة الغربية ) والتي اتحدت فيما بعد مع الضفة الشرقية لنهر الأردن , لتكوّن المملكة الأردنية الهاشمية , التي أفخر أن أكون أحد رعاياها , فأصبحت هي وطني الأكبر . لكن بقي الوطن الأصغر فالظروف الماديّة في ذلك الوقت لم تكن لتسمح لنا بإقامة منزل يأوي عائلة مهجرة قليلة الموارد , فأمضينا ردحا من عمرنا نتنقل من بيت الى بيت, ومن قرية إلى أخرى حيث تتوفر لقمة العيش.
يعلم الله كيف تسنى لي أن أكمل الدراسة وعلى حساب ماذا , ثم تقلبت في ديار الغربة أعواما , فتزوجت وانجبت وأصبح كل أملنا بيتا يأوي زغب الحواصل ويمنحهم الدفء والأمان حتى أذن الله , فجمعت مبلغا وبحثت عن قطعة أرض على قد الحال فاشتريناها بكل ما جمعناه , وكم كانت سعادتنا مع أول خطوة خطوناها نحو الهدف السامي , ثم عدنا إلى بلاد الغربة , وصدقوني أننا طيلة العام ونحن نخطط البيت , وكل يحدد طموحاته وأفكاره ومتطلباتنا فيه , كل يوم مزق المخطط واعمل غيره, إلى أن استقر راينا على مخطط منزل يلبي متطلباتنا جمعا ,
عدنا ــ والعود أحمد ــ وأخذنا نقيمه طوبة طوبة يحدونا الأمل والفرح حتى أصبح بالنسبة لنا وطنا نحبه وننتمي إليه , البيت وسط قطعة الأرض وحولها طبعا حديقة بسيطة , حرصت على أن أمارس هواياتي , فأنا فلاّح أعرف قيمة الأرض وكيف أستغِلّها , حيث قمت بزراعتها بالأشجار المثمرة والورود الجميلة وبعض الخضار والبقول , فغدت جنة غناء تجذب الطيور والفراش , ولم يغب عن بالنا أن نعمل في زاوية منها حفرة , وضعنا فيها برميلا من أجل الشواء للحم الحنيذ أشبه ما يكون بالطابون البلدي وبجانبه تنور للخبز على النار عندما نحب, وأحضرنا كمية كبيرة من الحطب لهذه الغاية ,وتكملة للمشهد أنشأنا غرفة صغيرة , مددنا فوقها عريش من العنب , فأحسست أنه اكتملت لنا مباهج الدنيا : دار وسيعة وزوجة مطيعة وسيارة سريعة ,
ليلة الجمعة مع بداية فصل الربيع أخبرتهم أني أريد شراء خروف صغير وتربيته إلى عيد الاضحى , فرح الأولاد وقد وقع الخبر عليه وقوع المطر على الأرض الصادية, فهذه أول تجربة , في الصباح أصر ولداي على مرافقتي إلى سوق الماشية , ليكون لهم أمر اختيار الخروف حيث يريدانه أصبح أبلج أثلج أفلج ناصع البياض أقرن مديدا , وقد كان . سوق الماشية عندنا يوم الجمعة, يحضر مربو الموشي خرافهم المفطومة حديثا لمن يرغب في تربتها للمواسم والمناسبات , عدنا للبيت ووضعناه في تلك الغرفة , وعملنا له بمساعدتهما معلفا ومشربا وكل اللوازم .
ميزة الخراف الصغيرة أنها تألف من يربيها فتلعب معه وتلحقه وتقفز حوله, شيئا فشيئا نمت علاقة وطيدة حميمة بين ابني الصغير والخروف , وكان في الصف الأول الأساسي , فاصبح لا يكاد يفارقه أو يخرج من تلك الغرفة , ويصرّ علينا إذا ما خرجنا في نزهة في البر أن نأخذه معنا, ليلعب معه ويجري به في الحقول , وعندما ظهر قرنا أطلق اسم مقرن , وشيئا فشيئا كبر الخروف وكبرت محبته في قلبه فاشترى له من مصروفه قلادة بها جرس صغير وعلقها في رقبته.
في صبيحة يوم العيد حصل ما لم نحسب له حساب ؛ أفاق الغلام من نومه ليجد الخروف معلقا والسكين تقطّع أوصاله , فجلس واجما تتساقط الدموع من عينه بصمت رهيب جعل الجميع يحترمون صمته, ويقدّرون مشاعره وأحاسيسه , حاولنا تغيير الجو لكننا لم نستطع , قطعنا اللحم ووزعنا ما قسم الله به ثم طبخنا جزءاً منه , وعندما وضعنا الطعام مامنا قام عن المائدة , عبثا حاولنا إقناعه ليأكل لكنه أصر بأسلوب حازم , فرفض ودخل غرفته.
تدرون ــ أيها السادة الأفاضل ــ أنه من يومها تغيرت أحواله , فهو الآن في الثلاثينات ولا يأكل اللحوم الحمراء بأنواعها مطلقا , وصدقوني أني لمّا رأيته هكذا تمنيت لو كُسرت يدي ولم أذبح ذلك الخروف . طابت أوقاتكم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.