يا أم الوفا ..خاطرة بقلم : علي الشافعي

يا أم الوفا
خاطرة بقلمي : علي الشافعي
أعترف أمامكم ــ يا دام عزّكم ــ أنني لم أعش طفولة أبنائي , ما رأيتهم إلا وقد كبروا وترعرعوا , ليس لأني كنت بعيدا عنهم, أو في ديار الغربة , بل كنت معهم يوما بيوم ,أرقب حركاتهم وسكناتهم وأحاديثهم , وأتابع تحصيلهم مع معلميهم وسلوكياتهم في مدارسهم , ولكن مشاغل العمل التي كانت تستغرق النهار بأكمله، تلك المشاغل سرقتني منهم وسرقتهم مني ,كنت معلما ناجحا في عملي كما يشهد لي طلابي , ومع ذلك ما شرحت لهم درسا ولا علمتهم حرفا ,كنت أراهم يكبرون وينتقلون من صف دراسي لآخر, وما سالت نفسي كيف حصل هذا، أو الجندي المجهول الذي يقف وراء هذا النجاح , وسرّ تلك العلاقة بين الوليد وأمه , تلك التي تجعلها تقطع نومها في أشد ساعات النوم استغراقا ,فتنتشله بشغف , تضعه في حضنها وتلقمه ثديها , تهدهده , تغني له حتى ينام قرير العين هانيها ساعة أو بعض ساعة ,هكذا طوال الليل , وفي النهار دوامة من الطلبات , تعطي بغير حدود وبلا كلل أو ملل أو تبرّم أو منيّة ,تلمع عيناها بالسعادة , وتفاخر إذا فعل الوليد ما يسر , والتعاسة والشقاء إذا ألمّ به مكروه أو ارتفعت حرارته.
دارت الأيام دورتها وسرعان ما كبر الأولاد وعملوا وتأهلوا, وتقاعدت أنا من العمل وكُتِب علي الجلوسُ مضطرا في البيت طوال الوقت, فصرت أراقب أحفادي وأتابعهم يوما بيوم ؛ خلجاتهم منذ الولادة سكناتهم حركات أيديهم وأرجلهم , أتابع الفرح بعيني الأم , والقصة التي تنسجها حال قيام الطفل بحركة جديدة , اليوم يتسمّر واقفا على رجليه , ابتسم الوليد, طال شعره ,تحكم بعينيه ,أخذ يكاغي , يتجاوب مع حركة الأم ونغمات هدهدتها وأغاريدها وتهاليلها , ويتجاوب مع حركاتها , يضحك بصوت عال إذا ضحكت في وجهه , الفرحة أثناء الاستحمام اليومي , كيف تلبسه الملابس , ضمه إرضاعه , كمية الحنان التي تغدقها عليه بحب وسعادة وأمل عندما يحبو يقف يتشبث بالأثاث , ويقف يبكي يضحك يسخن اليوم تطعيم له, تحمله والدنيا لا تكاد تسعها بين أقرانها فرحا , اليوم بدأ ينطق بعض الحروف : بابا ماما تاتا , يلحس الطعام يأكل يجري يلعب ، يفهم يحمل يأخذ يمسك بيده , ينادي , كم تكون سعادتها وهي تعلمه كيف يمسك القلم تساعده على كتابة العصاية (الألف ) ، حرف الباء حفظ النشيد سورة قصيرة , تتحدث باستمرار بتفاخر أحيانا : ذكي فصيح سريع البديهة قوي الشخصية , الخروج للحارة , تخاصم مع أترابه بكي ضحك لعب , وقع نزل الدم من أنفه أو راسه , تفرح وهي تضمد جراحه الخفيفة , يذكرني هذا المشهد بأيام الزمن الجميل : ابن عمي في طفولته وقبل دخول المدرسة خرج للحارة , تعارك مع أحد أبناء الجيران ,وكان وحيد أمه , فرماه ابن عمي بحجر فأدماه , وسرعان ما دخلت أمه ثائرة مزمجرة , ترغي وتزبد , انتهى الأمر بعلْقة وفرك أذن لابن عمي من والدته , وما هي إلا لحظات حتى دخلت أم الوليد بباكيت من الحلو , ونادت على ابن عمي واعطته إياه , لنكتشف أن ام الوليد كانت نذرت ــ وهو في المهد ــ إذا كبر ولعب مع أقرانه ونزل دمه باكيت حلو للمتسبب .
بدأ الطفل يسأل السؤال مرة مرتين ولربما خمسة, كل مرة تجيبه بسعادة. دخل المدرسة تتابعه مع المعلمة وتذاكر له .
من خلال تلك المتابعة ْ بدأت أدرك سر العلاقة بين الوليد وأمه جنينا ووليدا ويافعا , هذا الحب حب وجودي , حب الكل للجزء, حب الجسد للروح ,إذ قد رأته بعيني قلبها قبل أن تراه بعيني راسها , بدأت أدرك الحكمة الإلهية من أن تكون الحضانة للأم عندما يحصل الشقاق, أدركت تضحية أم موسى عليه السلام عندما القته في اليم ,والشعور الذي غمرها عندما عاد اليها.
في عاداتنا وسلوكياتنا ــ يا رعاكم الله ــ نحمّل العبء الأكبر على الإنسان الأضعف , والطرف الضعيف في موروثنا هو المرأة , فنحن مجتمع ذكوري . فالزوج الذي يريد أن يلوي ذراع زوجته أو يبتزها يهددها بالطلاق وحرمانها من الأولاد : سأحرمك منهم, سأمنعك من رؤيتهم , فتضطر للتنازل عن أشياء كثيرة وتسكت على الظلم والجور . وكذلك الأهل لا يقفون معها ويقولون : أنت أبنتنا أهلا بك , تأكلين من هذا الكتف وهذا الكتف لكن أولادك فلا , نحن لا نتحمل مسؤوليتهم ولا نربي ابناء الغرباء , أبوهم أولى بهم . وهكذا تصبح ممزقة بيت زوج يهددها بفلذات كبدها وأهل عنهم راغبين .
وبعد : فلأمي ولأمهاتكم ولكل أم ــ حنت على وليد وضمته في أحشائها , وأرضعته الفضائل ومكارم الاخلاق: الصدق والكرامة والنبل والشهامة , والرجولة والعزة وحب الوطن ــ تحية أكبار وإجلال مقرونة بهذه الأبيات :
أنا بردان يامّي دثْرينــي وتحت طيّة جناحك هدهديني
أنا الحاني تَقبّل طُهر راسك و ابثك كل أشواقي وحنيني
وقول لك يا بعد عمري بكاسك أنا شربت المودة والسكينة
أنا جهدك أنا ثمرات فاسك أنا زهرك يا أطيب ياسمينة
أنا غرسة يَ أمي من اغراسك علا الأصل وزكى فرع الزتونة
أنا قمحي يَ أمي من دراسك أنا من بيدرك خبزي وعجيني
أنا نفحة يَ أمــــي منِ انْفاسك أنا من نبعك الصافي معيني
أنا ارضعت الحماسة من حماسك وطبع المرجلة وإيدي الأمينة أنا لابس عَ بابك ثوب ناسك وعلى عتابك أنا حاني جبيني
تقبّل هالأيادي بعد راسك وقول لك يا غلا الروح اسمعيني
أنا ما قَدّرِت قيمة احساسك تري يا ام الحناين سامحيني
انا لو قبلتْ تربة مداســــــــــــك ما بتْسدّد ولو معشـــار ديني
دعيت الله يا رب المناســـــــك تنور قبرها بنــــــور اليقين
تراها الوالدة ام العطايـــــــــا وبعِدْها ما عطيّة تروق عيني